أسماء بنت أبي بكر.. صوت الثورة على الشرك وممولة الهجرة النبوية وزادها
حقوقيات في زمن النبوة "12"
ما لا يتم الشيء إلا به فهو جزء منه، بوجوده يوجد وبانتفائه يكون هو والعدم سواء، وهناك قاعدة فقهية تقول "مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
مما سبق يتضح الدور الأصيل لذات النطاقين مفخرة والدها أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، في الهجرة إلى المدينة، أعظم مهمة للإسلام في العهد المكي، لأنها بداية إقامة الدولة الإسلامية، فما كان ليكتب النجاح للهجرة إلا بعوامل تضافرت معًا لبلوغ الهدف، كان منها تمويل أسماء النبي وصاحبه بالنفقات والطعام وهما مختبئان في غار حراء.
وقد يتجلى للبعض أن الأمر هين وهو مخطئ لا محالة، فعظمة الدور تبرزها 3 عوامل، "التوقيت والفعل، وعمر أسماء".
وتوقيت الهجرة كان وقت ضعفٍ، خرج المسلمون أكثرهم من مكة وبقي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بقي من المستضعفين في القيود والأغلال والسجون، ففعلت أسماء ذلك وهي ذاتها تحتاج إلى حماية، وكان عمرها صغيرًا يزيد على 15 سنة بقليل، تنقل الدعم وسط صحراء قاحلة وترصد فرسان قريش لنبي الله وصاحبه وبحثهم المضني عنه لقتله، فماذا لو تم الإمساك بها أثناء ذلك، هل كان سيكتب للهجرة النجاح؟
على العكس، كانت صوتا للثورة على الشرك أطلقته في وجه أبي جهل حينما جاء سائلًا عن أبيها، فأخبرته بثبات "لا أدري"، فلطمها على وجهها لطمة قوية سقطت على إثرها زينتها ولكن لم يهتز لها رمش.
ولا يخفى فقر أسماء المدقع من القصة وما يسببه ذلك من صعوبة أداء المهمة، فالوارد وفقًا لكتب السيرة أنها رضي الله عنها أخذت نطاقها، وهو الإزار التي تأتزر به، فقسمته نصفين، نصف سترت به جسدها ونصف جعلته وعاءً لزادهما في هجرتهما، ومن أجل ذلك لقبت بـ"ذات النطاقين"، والنطاق "ما تشد به المرأة وسطها عند معاناة الأشغال لترفع به ثوبها".
كذلك اتصفت برجاحة العقل والذكاء الحاد ما جعلها شخصا يُعتمد عليه، ظهر ذلك عندما ترك أبو بكر أباه شيخاً كبيراً ضريراً، وخرج أبو بكر مهاجراً بكل ماله في سبيل الله، فطمأنته بظرف ملأته بالحجارة فقال: "هذا مال كثير، فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر".
والواقع أن أسماء هنا لم تقتصر على التضحية بنفسها، وبما بذلته في سبيل الله عز وجل ونصرة دينه، ولكنها زيادة على ذلك استطاعت أن توظف وسائل أخرى للقيام بهذا الحق، فها هي تستغل عقلها وشخصيتها في طمأنينة هذا الشيخ الكبير الأعمى حتى لا يجد في نفسه موجدة على ابنه المهاجر في سبيل الله.
وبعد هجرتها كانت شخصاً فاعلاً في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن، وكانت نساء قريشٍ يعرفن الكتابة، وكانت نساء الأنصار لا يعرفن الكتابة، فكانت نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما يتعلمن به القرآن من الكتابة، وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فجاءت معلمة إلى المدينة.
محطات عظيمة وقفت فيها السيدة أسماء، كان منها موقفها من مقتل ابنها الزبير بن العوام ومشاورته إياها، ومعركته مع الحجاج على الخلافة.. لحظة حاسمة من لحظات الخلود، الأم التي شاب رأسها ولم يشب قلبها، وشاخ جسدها ولم يشخ إيمانها، وانحنى ظهرها ولكن عقلها ظل مستقيماً مسددًا، قالت له: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: "إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو، فامضِ له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن".
وبعد مقتله والتمثيل بجثته قالت ببسالة وثبات مقولتها الشهيرة: "أما لهذا الفارس أن يترجل".
هذه أسماء العجوز في سن المئة، تقف في وجه الحجاج عندما أتاها شامتًا يسألها كيف ترى مقتل ابنها فقالت جملتها الشهيرة: "أراك أفسدت عليه دنياه وأراه أفسد عليك آخرتك"، فخجل وخرج من عندها مطأطئ الرأس، هذا هو الحجاج الجبار في أوج انتصاره وعنفوان طغيانه، وهي العجوز، إلا أن الإيمان في قلبها جعله في عينها يتضاءل ويتضاءل حتى صار شيئاً صغيراً كالهباء، وجعلها في عينه تمتد وتستطيل حتى صارت شيئًا كبيرًا كالمارد العملاق.
كانت رضي الله عنها امرأة صاحبة رسالة تمثل صوت الثورة على الشرك والضلال، فلا عجب أن تكتم سر الهجرة في شجاعة، وتستقبل أبا جهل وأصحابه في قوة، وتشق نطاقها وهي راضية، وتتحمل لطم خدها وهي صابرة، وتحسن الحيلة لإرضاء جدها، وهي سعيدة بما تصنع من أجل دينها ورسالتها.
أسماء وهجرة النبي
بذاتها تحدثت عن الهجرة فقالت: صنعت سفرة للنبي -صلى الله عليه وسلَّم- حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء وبالآخرة السفرة.
وروي أن النبي قال لها حين فعلت ذلك: (أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة)، فقيل لها "ذات النطاقين"
وقالت رضي الله عنها وأرضاها: "لما خرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأبو بكر رضي الله عنه، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا عند باب أبي بكر؟ فخرجت إليهم، فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت لا أدري والله أين أبي، فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي".
وحدثت أيضًا فقالت: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الهجرة، وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه، خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قلت: كلا يا أبت، قد ترك لنا خيرًا كثيراً، فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة البيت التي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيد جدي فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه فقال لا بأس، إذا كان ترك لكم ها فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم.
قالت أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني لأردت أن أسكن الشيخ بذلك.
زواج أسماء وأمومتها
تزوجت أسماء الزبير قبل الهجرة، وكلاهما مسلم خالطت بشاشة الإيمان قلبه، وامتزج الإسلام بلحمه ودمه، فكانا مثال الزوجين المتوافقين ضمهما هدف واحد، وطريقة واحدة، تحت لواء واحد، هاجر إلى المدينة فهاجرت، وجاهد فشدت أزره، وصبرت في ضرائه، وشكرت في سرائه.
لم يمنعها مكان أبيها، ولا شرف قومها، أن تقف إلى جانبه في أيام الشدة والفقر، تعمل وتكدح وتُعَمِّرَ عش الزوجية بكدِّ اليمين، وعرق الجبين.
قالت أسماء: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مال، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، فكنت أخدمه خدمة البيت كله، وأعلف فرسه، وأسوسه وأكفيه مؤونته، وأحشُّ له وأقوم عليه، وأدق النوى لناضحه (إبله)، وكنت أنقل النوى على رأسي من أرض الزبير، على ثلثي فرسخ، وكنت أعجن وأسقي الماء، وأخزر الدلو.
ولم تطل المدة حتى انتشرت دعوة الإسلام، وفاض الخير على المسلمين، وكان للزبير -فيما له- ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، وتمت كلمة ربك على المؤمنين بما صبروا، وصدق الله: "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ".
وظل المسلمون بعد الهجرة بمدة لا يولد لهم ولد، وأشاع اليهود أنهم سحروهم فلن ينجبوا، حتى كذبهم القدر، فولدت أسماء ابنها "عبدالله" فكان أول مولود في المدينة، فاستبشر المسلمون وكبَّروا، وولدت بعد ذلك "عروة والمنذر"، وما منهم إلا عالم أو فارس، على أن موقفها مع ابنها عبدالله هو الذي جعل التاريخ يصغي لها سمعه، ويكتبها في سجل الأمهات الخالدات.
محنة ابنها عبد الله بن الزبير
بعد وفاة يزيد بن معاوية بويع لعبدالله بن الزبير بالخلافة في معظم بلاد الشام: في الحجاز، واليمن، والعراق وخراسان، وظل 9 سنوات ينادى بأمير المؤمنين، حتى شاءت الأقدار أن تزول الخلافة من أرض الحجاز.
وأوردت كتب السيرة أن الحجاج جاء بجند الشام فحاصر ابن الزبير في مكة، وطال المدى واشتد الحصار، وتفرق عنه أكثر من كان معه، فدخل عبدالله على أمه قبل قتله بعشرة أيام، فقال لها: إن في الموت لراحة، قالت: لعلك تمنيته لي؟ ما أحب أن أموت حتى يأتي علي أحد يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت فأحتسبك، وإما ظفرت فتقر عيني، فلما كان اليوم الذي قُتل فيه دخل عليها حين رأى من الناس ما رأى من خذلانه، فقال لها يا أماه خذلني الناس حتى ولداي وأهلي، فلم يبقَ معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فماذا ترين؟
وهناك أمسك التاريخ بقلمه ليكتب موقف الأم الصبور من ابنها وفلذة كبدها، قالت أسماء: أنت والله يا بني أعلم بنفسك: إن كنت تعلم أنك على حق، وإليه تدعو، فامض له فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية يلعبون بها، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك، وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن".
قال: إني أخاف أن يُمَثِّل بي أهل الشام قالت: إن الكبش لا يؤلمه سلخه بعد ذبحه، فدنا ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً، إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله، قالت: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً، قال: جزاك الله خيراً، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد، قالت: لا أدعه أبداً، لمن قتل على باطل فقد قُتِلت على حق.
ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبدالله ثواب الصابرين الشاكرين، وذهب عبدالله فقاتل الساعات الأخيرة قتال الأبطال، وهو يتمثَّل صورة أمه في عينيه، وصوتها في أذنيه، مرتجزاً منشداً: أسماء يا أسماء لا تبكيني لم يبق إلا حسبي وديني وصارم لأنت بـه يميني وما زال على ثباته حتى قُتل، فكبر أهل الشام لمقتله، فبلغ ذلك ابن عمر فقال: الذين كبروا لمولده خير من الذين كبروا لموته.
مع الحجاج
صلب الحجاج عبدالله بن الزبير مبالغة في التشفي والإرهاب، ثم أرسل إلى أمه أسماء فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول: لتأتينني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك من قرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني.
فما كان من الحجاج إلا أن رضخ لصلابتها، وانطلق حتى دخل عليها، فقال: أرأيت كيف نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق وأهله، قال: كيف رأيتني صنعت بعدو الله قالت: أراك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك.
قال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"، وقد أذاقه الله ذاك العذاب الأليم.
قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله وحنَّكه بيده، وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وكان برًّا بأبويه صواماً قواماً بكتاب الله، معظماً لحرم الله، مبغضاً لمن يعصي الله -أما إن رسول الله حدثني أن في ثقيف كذَّاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه (تعني المختار بن عبيد الثقفي)، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه..
فخرج الحجاج من عندها منكسراً يتمنى لو لم يكن لقيها، بعد أن دخل عليها مزهواً يريد أن يتشفَّى.
وبلغ عبدالملك بن مروان ما صنع الحجاج مع أسماء فكتب إليه يستنكر فعله، ويقول ما لك وابنة الرجل الصالح؟ وأوصاه بها خيراً، ودخل عليها الحجاج فقال: يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة.. وأخيراً آن للفارس المصلوب أن يترجل، وينزل من فوق خشبته ويسلَّم إلى أمه فتحنّطه وتكفنه وتصلي عليه وتودعه جوف الثرى ليلتقي في دار الخلود بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدته صفية، وخالته عائشة، رضي الله عنهم.
وفاتها
ضربت لنا السيدة أسماء، أروع الأمثلة في قوة العزيمة والشجاعة، والكرم والعطاء، والصبر والتضحية، فعاشت حياتها على هذا الحال حتى وافتها المنيَّة، تتحمل كل المشاق والصعوبات التي واجهتها، راضيةً النفس بقضاء الله، لتترك لنا القدوة الحسنة في كل ما عاشت وعاصرت في حياتها، ووافتها المنية فتُوفِّيَتْ سنة (73هـ)، فرضي الله عنها وأرضاها.
المراجع
سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي، بتصرف
الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
فقه السيرة النبوية لمنير الغضبان، بتصرف
صحيح مسلم بشرح النووي